الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ جُنَاحٌ. وَ "الجُنَاحُ"، الْحَرَجُ، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، وَهُوَ لَا حَرَجَ عَلَيْكُمْ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، يَعْنِي: أَنْ تَلْتَمِسُوا فَضْلًا مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ. يُقَالُ مِنْهُ: ابْتَغَيْتُ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ- وَمِنْ فَضْلِ اللَّهِ- أَبْتَغِيهِ ابْتِغَاءً"، إِذَا طَلَبْتُهُ وَالْتَمَسْتُهُ، " وَبَغَيْتُهُ أَبْغِيهِ بَغْيًا"، كَمَا قَالَ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ: بَغَـاكَ، وَمَـا تَبْغِيـهِ حَـتَّى وَجَدْتَـهُ *** كَـأَنَّكَ قَـدْ وَاعَدْتَـهُ أَمْسَ مَوْعِـدًا يَعْنِي طَلَبَكَ وَالْتَمَسَكَ. وَقِيلَ: إِنَّمَعْنَى" ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ"، الْتِمَاسُ رِزْقِ اللَّهِ بِالتِّجَارَةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَـزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا لَا يَرَوْنَ أَنْ يَتَّجِرُوا إِذَا أَحْرَمُوا يَلْتَمِسُونَ الْبِرَّ بِذَلِكَ، فَأَعْلَمَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ لَا بِرَّ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّ لَهُمُ الْتِمَاسُ فَضْلِهِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَوْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: كَانُوا يَحُجُّونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: فِي الْمَوْسِمِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يُحَدِّثُ قَالَ: كَانَ نَاسٌ لَا يَتَّجِرُونَ أَيَّامَ الْحَجِّ، فَنَـزَلَتْ فِيهِمْ {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِمَارَةَ الْأَسَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو لَيْلَى، عَنْ بُرَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: إِذَا كُنْتُمْ مُحْرِمِينَ، أَنْ تَبِيعُوا وَتَشْتَرُوا. حَدَّثَنَا طَلِيقُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَسْبَاطُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ التَّيْمِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: (إِنَّا قَوْمٌ نَكْرِي، فَهَلْ لَنَا حَجٌّ؟ قَالَ: أَلَيْسَ تَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ، وَتَأْتُونَ الْمُعَرَّفَ وَتَرْمُونَ الْجِمَارَ، وَتُحَلِّقُونَ رُءُوسَكُمْ؟ فَقُلْنَا: بَلَى! قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ الَّذِي سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ لَهُ، حَتَّى نَـزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتُمْ حُجَّاج). حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَتْ تُقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةُ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ". حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: هُوَ التِّجَارَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالِاشْتِرَاءِ لَا بَأْسَ بِهِ. حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ". حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُكَاظُ وَذُو الْمَجَازِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ، حَتَّى أَنْـزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَبَّابَةُ بْنُ سِوَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي أُمَيْمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ- وَسُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يَحُجُّ وَمَعَهُ تِجَارَةٌ- فَقَرَأَ ابْنُ عُمَرَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا لَا يَتَّجِرُونَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، فَنَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ: " لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ". حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ قَوْلُهُ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ"، هَكَذَا قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: التِّجَارَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَجْرُ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: التِّجَارَةُ، أُحِلَّتْ لَهُمْ فِي الْمَوَاسِمِ. قَالَ: فَكَانُوا لَا يَبِيعُونَ، أَوْ يَبْتَاعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِعَرَفَةَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَعْرُجُونَ عَلَى كَسِيرٍ وَلَا ضَالَّةٍ لَيْلَةَ النَّفْرِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا"لَيْلَةَ الصَّدْرِ"، وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا تِجَارَةً وَلَا بَيْعًا، فَأَحَلَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَنْ يَعْرُجُوا عَلَى حَوَائِجِهِمْ وَيَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ رَبِّهِمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقْرَأُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظُ مَتْجَرًا لِلنَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ تَرَكُوا ذَلِكَ حَتَّى نَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ}. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ وَالْمُثَنَّى، قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: كَانَ بَعْضُ الْحَاجِّ يُسَمَّوْنَ "الدَّاجَّ"، فَكَانُوا يَنْـزِلُونَ فِي الشِّقِّ الْأَيْسَرِ مِنْ مِنًى، وَكَانَ الْحَاجُّ يَنْـزِلُونَ عِنْدَ مَسْجِدِ مِنًى، فَكَانُوا لَا يَتَّجِروُنَ، حَتَّى نَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، فَحَجُّوا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ قَالَ: كَانَ نَاسٌ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَّجِروُنَ، حَتَّى نَـزَلَتْ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، فَرُخِّصَ لَهُمْ فِي الْمَتْجَرِ وَالرُّكُوبِ وَالزَّادِ. حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، هِيَ التِّجَارَةُ. قَالَ: اتَّجِرُوا فِي الْمَوْسِمِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: كَانَ النَّاسُ إِذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَتَبَايَعُوا حَتَّى يَقْضُوا حَجَّهُمْ، فَأَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُمْ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانُوا يَتَّقُونَ الْبُيُوعَ وَالتِّجَارَةَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ، يَقُولُونَ: "أَيَّامُ ذِكْرٍ!" فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، فَحَجُّوا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ". حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحِمَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ قَرَأَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَوْلُهُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ لَا يَعْرُجُونَ عَلَى كَسِيرٍ وَلَا عَلَى ضَالَّةٍ وَلَا يَنْتَظِرُونَ لِحَاجَةٍ، وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا" لَيْلَةَ الصَّدْرِ" وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا تِجَارَةً. فَأَحَلَّ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، أَنْ يَعْرُجُوا عَلَى حَاجَتِهِمْ، وَأَنْ يَطْلُبُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَنْدَلٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُمْرَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمْرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كُنْتُمْ تَتَّجِرُونَ فِي الْحَجِّ؟ قَالَ: وَهَلْ كَانَتْ مَعَايِشُهُمْ إِلَّا فِي الْحَجِّ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّا قَوْمٌ نُكْرِي فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا حَجٌّ! قَالَ: أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ كَمَا يُحْرِمُونَ، وَتَطُوفُونَ كَمَا يَطُوفُونَ، وَتَرْمُونَ كَمَا يَرْمُونَ؟ قَالَ: بَلَى! قَالَ: فَأَنْتَ حَاجٌّ! جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَمَّا سَأَلْتَ عَنْهُ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانُوا إِذَا أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ لَمْ يَتَّجِرُوا بِتِجَارَةٍ، وَلَمْ يَعْرُجُوا عَلَى كَسِيرٍ، وَلَا عَلَى ضَالَّةٍ، فَأَحَلَّ اللَّهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الرَّازِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَتْ عُكَاظُ وَمَجَنَّةُ وَذُو الْمَجَازِ أَسْوَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَانُوا يَتَّجِرُونَ فِيهَا. فَلَمَّا كَانَ الْإِسْلَامُ كَأَنَّهُمْ تَأْثَّمُوا مِنْهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: "لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: "فَإِذَا أَفَضْتُمْ"، فَإِذَا رَجَعْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ. وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلَّذِي يَضْرِبُ الْقِدَاحَ بَيْنَ الْأَيْسَارِ: "مُفِيضٌ"، لِجَمْعِهِ الْقِدَاحَ ثُمَّ إِفَاضَتُهُ إِيَّاهَا بَيْنَ الْيَاسِرِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ الْأَسَدِيِّ: فُقُلْـتُ لَهَـا رُدِّي إِلَيْـهِ جَنَانَـهُ *** فَـرَدَّتْ كَمَـا رَدّ الْمَنِيـحَ مُفِيـضُ ثُمَّاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي" عَرَفَاتٍ "، وَالْعِلَّةِ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا صُرِفَتْ وَهِيَ مَعْرِفَةٌ، وَهَلْ هِيَ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَمْ هِيَ لِجَمَاعَةِ بِقَاعٍ؟ فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرِيِّينَ: هِيَ اسْمٌ كَانَ لِجَمَاعَةٍ مِثْلَ"مُسْلِمَاتٍ، وَمُؤْمِنَاتٍ"، سُمِّيَتْ بِهِ بُقْعَةٌ وَاحِدَةٌ، فَصُرِفَ لَمَّا سُمِّيَتْ بِهِ الْبُقْعَةُ الْوَاحِدَةُ، إِذْ كَانَ مَصْرُوفًا قَبْلَ أَنْ تُسَمَّى بِهِ الْبُقْعَةُ، تَرْكًا مِنْهُمْ لَهُ عَلَى أَصْلِهِ. لِأَنَّ "التَّاءَ" فِيهِ صَارَتْ بِمَنْـزِلَةِ "اليَاءِ وَالْوَاوِ" فِي"مُسْلِمِينَ وَمُسْلِمُونَ"، لِأَنَّهُ تَذْكِيرُهُ، وَصَارَ التَّنْوِينُ بِمَنْـزِلَةِ "النُّونِ". فَلَمَّا سُمِّيَ بِهِ تُرِكَ عَلَى حَالِهِ، كَمَا يُتْرَكُ" الْمُسْلِمُونَ" إِذَا سُمِّيَ بِهِ عَلَى حَالِهِ. قَالَ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ لَا يَصْرِفُهُ إِذَا سُمِّيَ بِهِ، وَيُشَبِّهُ "التَّاءَ" بِهَاءِ التَّأْنِيثِ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ ضَعِيفٌ، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَنَوَّرْتُهَـا مِـنْ أَذْرِعَـاتَ وَأَهْلُهَـا *** بِيَـثْرِبَ أَدْنَـى دَارِهَـا نَظَـرٌ عَـالِي وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُنَوِّنُ"أَدْرِعَاتَ" وَكَذَلِكَ: "عَانَاتَ"، وَهُوَ مَكَانٌ. وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفِيِّينَ: إِنَّمَا انْصَرَفَتْ "عَرَفَاتٌ"، لِأَنَّهُنَّ عَلَى جِمَاعِ مُؤَنَّثٍ"بِالتَّاءِ". قَالَ: وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ جِمَاعِ مُؤَنَّثٍ"بِالتَّاءِ"، ثُمَّ سَمَّيْتَ بِهِ رَجُلًا أَوْ مَكَانًا أَوْ أَرْضًا أَوِ امْرَأَةً، انْصَرَفَتْ. قَالَ: وَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُسَمِّي شَيْئًا مِنَ الْجِمَاعِ إِلَّا جِمَاعًا، ثُمَّ تَجْعَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاحِدًا. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: لَيْسَتْ" عَرَفَاتٌ " حِكَايَةً، وَلَا هِيَ اسْمٌ مَنْقُولٌ، وَلَكِنَّ الْمَوْضِعَ مُسَمَّى هُوَ وَجَوَانِبُهُ" بِعَرَفَاتٍ "، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهَا الْبُقْعَةُ. اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وَلَا يَنْفَرِدُ وَاحِدُهَا. قَالَ: وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِي الْأَمَاكِنِ وَالْمَوَاضِعِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ نَصَبَتِ الْعَرَبُ "التَّاءَ" فِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ. وَلَوْ كَانَ مَحْكِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِيهِ جَائِزًا، لِأَنَّ مَنْ سَمَّى رَجُلًا "مُسْلِمَاتٍ" أَوْ"مُسْلِمِينَ" لَمْ يَنْقُلْهُ فِي الْإِعْرَابِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ، فَلِذَلِكَ خَالَفَ: "عَانَاتُ، وَأَذْرُعَاتُ"، مَا سُمِّيَ بِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ عَلَى جِهَةِ الْحِكَايَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ لِعَرَفَاتٍ " عَرَفَاتٌ". فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قِيلَ لَهَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهَا عَرَفَهَا بِنَعْتِهَا الَّذِي كَانَ لَهَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ، فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ بِذَلِكَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ قَائِلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَرَفَاتٍ اسْمٌ لِلْبُقْعَةِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِنَفْسِهَا وَمَا حَوْلَهَا، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَأَرْضٌ سَبَاسِبُ، فَتُجْمَعُ بِمَا حَوْلَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ أَسْبَاطَ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: لَمَّا أَذَّنَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَأَجَابُوهُ بِالتَّلْبِيَةِ، وَأَتَاهُ مَنْ أَتَاهُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَنَعَتَهَا فَخَرَجَ، فَلَمَّا بَلَغَ الشَّجَرَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْطَانُ يَرُدُّهُ، فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ، فَصَدَّهُ أَيْضًا، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ، فَطَارَ فَوَقَعَ عَلَى الْجَمْرَةِ الثَّالِثَةِ، فَرَمَاهُ وَكَبَّرَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُ، وَلَمْ يَدْرِ إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ يَذْهَبُ، انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى ذَا الْمَجَازِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ جَازَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ: "ذَا الْمَجَازِ". ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى وَقَعَ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا عَرَفَ النَّعْتَ، قَالَ: "قَدْ عَرَفْتُ!" فَسُمِّيَ: "عَرَفَاتٍ". فَوَقَفَ إِبْرَاهِيمُ بِعَرَفَاتٍ، حَتَّى إِذَا أَمْسَى ازْدَلَفَ إِلَى جَمْعٍ، فَسُمِّيَتِ: "الْمُزْدَلِفَةَ "، فَوَقَفَ بِجَمْعٍ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُعَمِّرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: لَمَّا وَقَفَ جِبْرِيلُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بِعَرَفَاتٍ، قَالَ: "عَرَفْتَ!"، فَسُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ لِذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَحَجَّ بِهِ، فَلَمَّا أَتَى عَرَفَةَ قَالَ: "قَدْ عَرَفْتَ!"، وَكَانَ قَدْ أَتَاهَا مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ" عَرَفَةَ". وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ بِنَفْسِهَا وَبِبِقَاعٍ أُخَرَ سِوَاهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ أَبِي طَهْفَةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَفَاتٍ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يَقُولُ لِإِبْرَاهِيمَ: هَذَا مَوْضِعُ كَذَا، هَذَا مَوْضِعُ كَذَا، فَيَقُولُ: "قَدْ عَرَفْتَ!"، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ" عَرَفَاتٍ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتْ عَرَفَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُرِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ الْمَنَاسِكَ، فَيَقُولُ: "عَرَفْتَ، عَرَفْتَ!" فَسُمِّيَ" عَرَفَاتٍ". حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَصْلُ الْجَبَلِ الَّذِي يَلِي عُرَنَةَ وَمَا وَرَاءَهُ مَوْقِفٌ، حَتَّى يَأْتِيَ الْجَبَلَ جَبَلَ عَرَفَةَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَرَفَاتٌ: "النَّبْعَةُ" وَ "النَّبِيعَةُ" وَ"ذَاتُ النَّابِتِ"، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ: "فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ "، وَهُوَ الشِّعْبُ الْأَوْسَطُ. وَقَالَ زَكَرِيَّا: مَا سَالَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي يَقِفُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ إِلَى عَرَفَةَ، فَهُوَ مِنْ عَرَفَةَ، وَمَا دَبَرَ ذَلِكَ الْجَبَلَ فَلَيْسَ مِنْ عَرَفَةَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ نَظِيرَ مَا يُسَمَّى الْوَاحِدُ بِاسْمِ الْجَمَاعَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَشْخَاصِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: هُوَ اسْمٌ لِوَاحِدٍ سُمِّيَ بِجِمَاعٍ، فَإِذَا صُرِفَ ذَهَبَ بِهِ مَذْهَبَ الْجِمَاعِ الَّذِي كَانَ لَهُ أَصْلًا. وَإِذَا تُرِكَ صَرْفُهُ ذُهِبَ بِهِ إِلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ مَعْرُوفَةٍ، فَتُرِكَ صَرْفُهُ كَمَا يُتْرَكُ صَرْفُ أَسْمَاءِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى الْمَعَارِفِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ فَكَرَّرْتُمْ رَاجِعِينَ مِنْ عَرَفَةَ، إِلَى حَيْثُ بَدَأْتُمُ الشُّخُوصَ إِلَيْهَا مِنْهُ، " فَاذْكُرُوا اللَّهَ"، يَعْنِي بِذَلِكَ: الصَّلَاةَ، وَالدُّعَاءَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَقَدّ بَيَّنَّا قَبْلُ أَنَّ "المَشَاعِرَ" هِيَ الْمَعَالِمُ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ: "شَعَرْتُ بِهَذَا الْأَمْرِ"، أَيْ عَلِمْتُ، فَـ "الْمَشْعَرُ"، هُوَ الْمَعْلَمُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَهُ وَالْمَقَامَ وَالْمَبِيتَ وَالدُّعَاءَ، مِنْ مَعَالِمَ الْحَجِّ وَفُرُوضِهِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ. وَقَدْ:- حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوِيدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَنْـزِلِهِ بِالْمُزْدَلِفَةِ إِنِ اسْتَطَاعَ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}. فَأَمَّا "المَشْعَرُ": فَإِنَّهُ هُوَ مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ إِلَى مُحَسِّرٍ. وَلَيْسَ مَأْزِمَا عَرَفَةَ مِنَ "المَشْعَرِ". وَبِالَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِّيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ النَّاسَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى الْجُبَيْلِ بِجَمْعٍ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ جَمْعَا كُلَّهَا مَشْعَرٌ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، قَالَ: هُوَ الْجَبَلُ وَمَا حَوْلَهُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ اللَّذَيْنِ بِجَمْعٍ مَشْعَرٌ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ: مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: "الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ " الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا قَالَ مُعَمِّرٌ: وَقَالَهُ قَتَادَةُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، قَالَ: مَا بَيْنَ جَبَلَيِ الْمُزْدَلِفَةِ هُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَقَالَ: إِذَا انْطَلَقْتَ مَعِي أَعْلَمْتَكَهُ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَوَقَفْنَا حَتَّى إِذَا أَفَاضَ الْإِمَامُ سَارَ وَسِرْنَا مَعَهُ، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ أَيْدِي الرِّكَابِ، وَكُنَّا فِي أَقْصَى الْجِبَالِ مِمَّا يَلِي عَرَفَاتٍ قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؟ أَخَذْتَ فِيهِ! قُلْتُ: مَا أَخَذْتُ فِيهِ؟ قَالَ: كُلُّهَا مَشَاعِرُ إِلَى أَقْصَى الْحَرَمِ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ قَالَ: إِنْ تَلْزَمْنِي أُرِكَهُ. قَالَ: فَلَمَّا أَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَةَ وَهَبَطَتْ أَيْدِي الرِّكَابِ فِي أَدْنَى الْجِبَالِ، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؟ قَالَ: قُلْتُ: هَأَنَذَا، قَالَ: أَخَذْتَ فِيهِ! قُلْتُ: مَا أَخَذْتُ فِيهِ! قَالَ: حِينَ هَبَطَتْ أَيْدِي الرِّكَابِ فِي أَدْنَى الْجِبَالِ فَهُوَ مَشْعَرٌ إِلَى مَكَّةَ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِمَارَةَ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ مَكْحُولٍ الْأَزْدِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ يَوْمَ عَرَفَةَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؟ فَقَالَ: الْزَمْنِي! فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ وَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ؟ هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ: الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَيْنَ الْمُزْدَلِفَةُ؟ قَالَ: إِذَا أَفْضْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، فَذَلِكَ إِلَى مُحَسِّرٍ. قَالَ: وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مَأْزِمَا عَرَفَةَ مِنَ الْمُزْدَلِفَة، وَلَكِنْ مُفَاضَاهُمَا. قَالَ: قِفْ بَيْنَهُمَا إِنْ شِئْتَ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ تَقِفَ دُونَ قُزَحٍ. هَلُمَّ إِلَيْنَا مِنْ أَجْلِ طَرِيقِ النَّاسِ !. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: رَآهُمُ ابْنُ عُمَرَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى قُزَحٍ، فَقَالَ: عَلَامَ يَزْدَحِمُ هَؤُلَاءِ؟ كُلُّ مَا هَهُنَا مَشْعَرٌ!. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} وَذَلِكَ لَيْلَةَ جَمْعٍ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مَشْعَرٌ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ هُوَ مَا بَيْنَ جِبَالِ الْمُزْدَلِفَةِ وَيُقَالُ: هُوَ قَرْنُ قُزَحٍ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}، وَهِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَهِيَ جَمْعٌ. وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ هَنَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُنِي عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يَقُولُ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ: مَا بَيْنَ جَبَلَيْ مُزْدَلِفَةَ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسٌ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ: مَا أَدْرِي؟ وَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ: عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الضَّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْجُبَيْلُ وَمَا حَوْلَهُ مَشَاعِرُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ ثُوَيْرٍ، قَالَ: وَقَفْتُ مَعَ مُجَاهِدٍ عَلَى الْجُبَيْلِ، فَقَالَ: هَذَا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الضَّحَاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، الْجُبَيْلُ وَمَا حَوْلَهُ مَشَاعِرُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا جَعَلْنَا أَوَّلَ حَدِّ الْمَشْعَرِ مِمَّا يَلِي مِنًى، مُنْقَطَعَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِمَّا يَلِي الْمُزْدَلِفَةَ، لِأَنَّ: الْمُثَنَّى حَدَّثَنِي قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا عُرَنَةَ، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا مُحَسِّرًا). حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنِي هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ إِلَّا وَادِي مُحَسِّرٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حَجَّاجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي خُطْبَتِهِ: تَعْلَمُنَّ أَنَّ عَرَفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ، تَعْلَمُنَّ أَنَّ مُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مَوْقِفٌ إِلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنِّي أَخْتَارُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَجْعَلَ وُقُوفَهُ لِذِكْرِ اللَّهِ مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ عَلَى قُزَحٍ وَمَا حَوْلَهُ، لِأَنَّ:- أَبَا كُرَيْبٍ حَدَّثَنَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، «عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، غَدَا فَوَقَفَ عَلَى قُزَحٍ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا الْمَوْقِفُ، وَكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِف). حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بِكِيرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا هَنَّادٌ وَأَحْمَدُ الدُّولَابِيُّ، قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَرْبُوعٍ عَنِ ابْنِ الْحُوَيْرِثِ، قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَاقِفًا عَلَى قُزَحٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ أَصْبِحُوا! أَيُّهَا النَّاسُ أَصْبِحُوا! ثُمَّ دَفَعَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكِ، قَالَ: حَجَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِجَمْعٍ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ غَدَا وَغَدَوْنَا مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى قُزَحٍ، ثُمَّ دَفَعَ الْإِمَامُ فَدَفَعَ بِدَفْعَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ حِين صَارَ بِالْمُزْدَلِفَةِ: "هَذَا كُلُّهُ مَشَاعِرُ إِلَى مَكَّةَ "، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهَا مَعَالِمُ مِنْ مَعَالِمِ الْحَجِّ يَنْسَكُ فِي كُلِّ بُقْعَةٍ مِنْهَا بَعْضَ مَنَاسِكِ الْحَجِّ لَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ" الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ" الَّذِي يَكُونُ الْوَاقِفُ حَيْثُ وَقَفَ مِنْهُ إِلَى بَطْنِ مَكَّةَ قَاضِيًا مَا عَلَيْهِ مِنَالْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مِنْ جَمْعٍ. وَأَمَّا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَسْوَدِ: "لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُنِي عَنِ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ " فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ: لَمْ أَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُنِي عَنْ حَدِّ أَوَّلِهِ وَمُنْتَهَى آخِرِهِ عَلَى حَقِّهِ وَصِدْقِهِ. لِأَنَّ حُدُودَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهَا حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا. غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى حَدِّ أَوَّلِهِ وَمُنْتَهَى آخِرِهِ وُقُوفًا لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ إِلَّا مَنْ ذَكَرْتُ، فَمَوْضِعُ الْحَاجَةِ لِلْوُقُوفِ لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ سُكَّانِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ غَيْرِهِمْ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَشَاعِرِ الْحَجِّ، وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَنْسِكُوا عِنْدَهَا كَعَرَفَاتٍ وَمِنًى وَالْحَرَمِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالشُّكْرِ لَهُ عَلَى أَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ، وَلِيَكُنْ ذِكْرُكُمْ إِيَّاهُ بِالْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ، وَالطَّاعَةِ لَهُ وَالشُّكْرِ عَلَى مَا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ مِنَ التَّوْفِيقِ، لِمَا وَفَّقَكُمْ لَهُ مِنْ سُنَنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِهِ بَعْدَ الَّذِي كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْحَيْرَةِ وَالْعَمَى عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ وَبَعْدَ الضَّلَالَةِ كَذِكْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْهُدَى، حَتَّى اسْتَنْقَذَكُمْ مِنَ النَّارِ بِهِ بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْهَا، فَنَجَّاكُمْ مِنْهَا. وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: "كَمَا هَدَاكُمْ". وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}، فَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ" إِنَّ" إِلَى تَأْوِيلِ" مَا"، وَتَأْوِيلَ اللَّامِ الَّتِي فِي" لَمِنَ" إِلَى" إِلَّا". فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: وَمَا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ هِدَايَةِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ لِمَا هَدَاكُمْ لَهُ مِنْ مِلَّةِ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي اصْطَفَاهَا لِمَنْ رَضِيَ عَنْهُ مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا مِنَ الضَّالِّينَ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَجِّهُ تَأْوِيلَ"إِنَّ" إِلَى"قَدْ". فَمَعْنَاهُ عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا ذَكَرَكُمْ بِالْهُدَى، فَهَدَاكُمْ لِمَا رَضِيَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ، وَقَدْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مِنَ الضَّالِّينَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَمَنِ الْمَعْنِيِّبِالْأَمْرِ بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ؟وَمَنِ "النَّاسُ" الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ مَوْضِعِ إِفَاضَتِهِمْ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ أَفِيضُوا"، قُرَيْشٌ وَمَنْ وَلَدَتْهُ قُرَيْشٌ، الَّذِينَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ "الحُمْسُ"، أُمِرُوا فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ، وَهِيَ الَّتِي أَفَاضَ مِنْهَا سَائِرُ النَّاسِ غَيْرُ الْحُمْسِ. وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ وَلَدَتْهُ قُرَيْشٌ، كَانُوا يَقُولُونَ: "لَا نَخْرُجُ مِنَ الْحَرَمِ". فَكَانُوا لَا يَشْهَدُونَ مَوْقِفَ النَّاسِ بِعَرَفَةَ مَعَهُمْ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْوُقُوفِ مَعَهُمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّفَاوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ. عَنْ عَائِشَة قالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهَا-وَهُمُ الْحُمْسُ- يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ يَقُولُونَ: "نَحْنُ قَطِينُ اللَّهِ!"، وَكَانَ مَنْ سِوَاهُمْ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ كَتَبْتَ إِلَيَّ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: "إِنِّي أَحْمُسُ" وَإِنِّي لَا أَدْرِي أَقَالَهَا النَّبِيُّ أَمْ لَا؟ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُهَا تَحَدَّثُ عَنْهُ. وَالْحُمْسُ: مِلَّةُ قُرَيْشٍ- وَهُمْ مُشْرِكُونَ- وَمَنْ وَلَدَتْ قُرَيْشٌ فِي خُزَاعَةَ وَبَنِي كِنَانَةَ. كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ، إِنَّمَا كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ وَهُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَكَانَتْ بَنُو عَامِرٍ حُمْسًا، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَلَدَتْهُمْ، وَلَهُمْ قِيلَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، وَأَنَّ الْعَرَبَ كُلَّهَا كَانَتْ تُفِيضُ مِنْ عَرَفَةَ إِلَّا الْحُمْسَ، كَانُوا يَدْفَعُونَ إِذَا أَصْبَحُوا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: (كَانَتِ الْعَرَبُ تَقِفُ بِعَرَفَةَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ دُونَ ذَلِكَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَوْقِفَ إِلَى مَوْقِفِ الْعَرَبِ بِعَرَفَة). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} مِنْ حَيْثُ تُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ هَبَطَ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ: هَلُمَّ إِلَيَّ عِبَادِي، آمَنُوا بِوَعْدِي وَصَدَّقُوا رُسُلِي! فَيَقُولُ: مَا جَزَاؤُهُمْ؟ فَيُقَالُ: أَنْ تَغْفِرَ لَهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ وَحَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، قَالَ: عَرَفَةَ. قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ نَحْنُ: "الْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ، وَلَا نُخَلِّفُ الْحَرَمَ، وَنُفِيضُ عَنِ الْمُزْدَلِفَةِ "، فَأُمِرُوا أَنْ يَبْلُغُوا عَرَفَةَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، قَالَ قَتَادَةُ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَكُلُّ حَلِيفٍ لَهُمْ وَبَنِي أُخْتٍ لَهُمْ، لَا يُفِيضُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ، إِنَّمَا يُفِيضُونَ مِنَ الْمُغَمَّسِ، وَيَقُولُونَ: "إِنَّمَا نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ، فَلَا نَخْرُجُ مِنْ حَرَمِهِ"، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ سُنَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ هَكَذَا: الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ. حَدَّثَنِي مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَقِفُ بِعَرَفَاتٍ، فَتُعَظِّمُ قُرَيْشٌ أَنْ تَقِفَ مَعَهُمْ، فَتَقِفُ قُرَيْشٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُفِيضُوا مَعَ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَكُلُّ ابْنِ أُخْتٍ وَحَلِيفٍ لَهُمْ، لَا يُفِيضُونَ مَعَ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ، يَقِفُونَ فِي الْحَرَمِ وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهُ، يَقُولُونَ: "إِنَّمَا نَحْنُ أَهْلُ حَرَمِ اللَّهِ فَلَا نَخْرُجُ مِنْ حَرَمِهِ"; فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ; وَكَانَتْ سُنَّةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ الْإِفَاضَةُ مِنْ عَرَفَاتٍ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ- لَا أَدْرِي قَبْلَ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ- ابْتَدَعَتْ أَمْرَ الْحُمْسِ، رَأْيًا رَأَوْهُ بَيْنَهُمْ، قَالُوا: نَحْنُ بَنُو إِبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ وَوُلَاةُ الْبَيْتِ، وَقَاطِنُو مَكَّةَ وَسَاكِنُوهَا، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقِّنَا وَلَا مِثْلُ مَنْـزِلِنَا، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا، فَلَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنَ الْحِلِّ كَمَا تُعَظِّمُونَ الْحَرَمَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفَّتِ الْعَرَبُ بِحَرَمِكُمْ" وَقَالُوا: قَدْ عَظَّمُوا مِنَ الْحِلِّ مِثْلَ مَا عَظَّمُوا مِنَ الْحَرَمِ، فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ، وَالْإِفَاضَةَ مِنْهَا، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجِّ وَدِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ النَّاسِ أَنْ يَقِفُوا عَلَيْهَا، وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْحُرْمَةِ، وَلَا نُعَظِّمَ غَيْرَهَا كَمَا نُعَظِّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ- وَالْحُمْسُ: أَهْلُ الْحَرَمِ. ثُمَّ جَعَلُوا لِمَنْ وَلَدُوا مِنَ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِي الْحِلِّ مِثْلَ الَّذِي لَهُمْ بِوِلَادَتِهِمْ إِيَّاهُمْ، فَيَحِلُّ لَهُمْ مَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ. ثُمَّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ، حَتَّى قَالُوا: "لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يُأَقِّطُوا الْأَقِطَّ، وَلَا يَسْلَأُوا السَّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ، وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ، وَلَا يَسْتَظِلُّوا إِنِ اسْتَظَلُّوا إِلَّا فِي بُيُوتِ الْأُدُمِ مَا كَانُوا حَرَامًا". ثُمَّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: "لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلِّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنَ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ، إِذَا جَاءُوا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا، وَلَا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمُوا أَوَّلَ طَوَافِهِمْ إِلَّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا مِنْهَا شَيْئًا طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً". فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ فَدَانَتْ بِهِ، وَأَخَذُوا بِمَا شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ- حِينَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ وَشَرَعَ لَهُ حَجَّهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}- يَعْنِي قُرَيْشًا، وَ "النَّاسُ" الْعَرَبُ- فَرَفَعَهُمْ فِي سُنَّةِ الْحَجِّ إِلَى عَرَفَاتٍ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا، وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا. فَوَضَعَ اللَّهُ أَمْرَ الْحُمْسِ- وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ- عَنِ النَّاسِ بِالْإِسْلَامِ حِينَ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ. حَدَّثَنَا بَحْرُ بْنُ نَصْرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَة، قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقِفُ بِقُزَحٍ، وَكَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، قَالَ: فَأَنْـزَلَ اللَّهُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ: "ثُمَّ أَفِيضُوا "، الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ، وَالْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، مِنْ جَمْعٍ، وَبِـ " النَّاسِ "، إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي بِسْطَامٍ عَنِ الضَّحَاكِ، قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي نَرَاهُ صَوَابًا مِنْ تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ قُرَيْشٌ وَمَنْ كَانَ مُتَحَمِّسًا مَعَهَا مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ. وَهَذَا، إِذْ كَانَ مَا وَصَفْنَا تَأْوِيلَهُ فَهُوَ مِنَ الْمُقَدَّمِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ، وَالْمُؤَخَّرُ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُنَا فِي مِثْلِهِ، وَلَوْلَا إِجْمَاعُ مَنْ وَصَفْتُ إِجْمَاعَهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلُهُ. لَقُلْتُ: أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ الضَّحَاكُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَنَى بِقَوْلِهِ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إِبْرَاهِيمُ. لِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَا شَكَّ أَنَّهَا قَبْلَ الْإِفَاضَةِ مِنْ جَمْعٍ، وَقَبْلَ وُجُوبِ الذِّكْرِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ لَا شَكَّ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِفَاضَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَفَاضَ مِنْهُ النَّاسُ، بَعْدَ انْقِضَاءٍ ذِكْرِ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَبَعْدَ أَمْرِهِ بِذِكْرِهِ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالْإِفَاضَةِ إِلَّا مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يُفِيضُوا مِنْهُ، دُونَ الْمَوْضِعِ الَّذِي قَدْ أَفَاضُوا مِنْهُ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي قَدْ أَفَاضُوا مِنْهُ فَانْقَضَى وَقْتُ الْإِفَاضَةِ مِنْهُ، لَا وَجْهَ لِأَنْ يُقَالَ: "أَفِضْ مِنْهُ". فَإِذْ كَانَ لَا وَجْهَ لِذَلِكَ، وَكَانَ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ بِأَمْرٍ لَا مَعْنًى لَهُ، كَانَتْ بَيِّنَةً صِحَّةُ مَا قَالَهُ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، وَفَسَادُ مَا خَالَفَهُ، لَوْلَا الْإِجْمَاعُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ بِالَّذِي ذَكَرْنَا عَمَّنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ: وَ "النَّاسُ" جَمَاعَةٌ، " وَإِبْرَاهِيمُ " صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ يَقُولُ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}؟ قِيلَ: إِنْ الْعَرَبَ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا، فَتَدُلُّ بِذِكْرِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الْوَاحِدِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آلَ عِمْرَانَ: 173] وَالَّذِي قَالَ ذَلِكَ وَاحِدٌ، وَهُوَ فِيمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ أَهْلِ السِّيَرِ- نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] قِيلَ: عُنِيَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ مُنْصَرِفِينَ إِلَى مِنًى فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَادْعُوهُ وَاعْبُدُوهُ عِنْدَهُ، كَمَا ذَكَرَكُمْ بِهِدَايَتِهِ فَوَفَّقَكُمْ لِمَا ارْتَضَى لِخَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَهَدَاهُ لَهُ مِنْ شَرِيعَةِ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ ضُلَّالًا عَنْهُ. وَفِي" ثُمَّ" فِي قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، مِنَ التَّأْوِيلِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَا قَالَهُ الضَّحَاكُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: ثُمَّ أَفِيضُوا فَانْصَرِفُوا رَاجِعِينَ إِلَى مِنًى مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلِي مِنَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَسَلُونِي الْمَغْفِرَةَ لِذُنُوبِكُمْ، فَإِنِّي لَهَا غَفُورٌ، وَبِكُمْ رَحِيمٌ. كَمَا: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَيْفٍ الْعِجْلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِّيِّ السُّلَمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ كِنَانَةَ- وَيُكَنَّى أَبَا كِنَانَةَ-، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (دَعَوْتُ اللَّهَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَنْ يَغْفِرَ لِأُمَّتِي ذُنُوبَهَا، فَأَجَابَنِي أَنْ قَدْ غَفَرْتُ، إِلَّا ذُنُوبَهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَلْقِي. فَأَعَدْتُ الدُّعَاءَ يَوْمئِذٍ، فَلَمْ أُجَبْ بِشَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ الْمُزْدَلِفَةِ قُلْتُ: يَا رَبِّ، إِنَّكَ قَادِرٌ أَنْ تُعَوِّضَ هَذَا الْمَظْلُومَ مِنْ ظُلَامَتِهِ، وَتَغْفِرَ لِهَذَا الظَّالِمِ! فَأَجَابَنِي أَنْ قَدْ غَفَرْتُ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنَاكَ تَضْحَكُ فِي يَوْمٍ لَمْ تَكُنْ تَضْحَكُ فِيهِ! قَالَ: (ضَحِكْتُ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا سَمِعَ بِمَا سَمِعَ إِذْ هُوَ يَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، وَيَضَعُ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِه). حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ حَاتِمٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَشَّارُ بْنُ بَكِيرٍ الْحَنَفِيُّ، قَالَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَادٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مُحْسِنَكُمْ، وَأَعْطَى مُحْسِنَكُمْ مَا سَأَلَ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلَّا التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ، وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، وَالتَّبِعَاتُ بَيْنَكُمْ عِوَضُهَا مِنْ عِنْدِهِ أَفِيضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ. فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْضْتَ بِنَا بِالْأَمْسِ كَئِيبًا حَزِينًا، وَأَفْضْتَ بِنَا الْيَوْمَ فَرِحًا مَسْرُورًا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي بِالْأَمْسِ شَيْئًا لَمْ يَجُدْ لِي بِهِ، سَأَلْتُهُ التَّبِعَاتِ فَأَبَى عَلَيَّ، فَلِمَا كَانَ الْيَوْمُ أَتَانِي جِبْرِيلُ قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ التَّبِعَاتُ ضُمِنَتْ، عِوَضُهَا مِنْ عِنْدِي). فَقَدْ بَيَّنَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ أَنَّغُفْرَانَ اللَّهِ التَّبِعَاتِ الَّتِي بَيْنَ خَلْقِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، إِنَّمَا هُوَ غَدَاةَ جَمْعٍ، وَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "ثُمَّ {أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ}، لِذُنُوبِكُمْ، فَإِنَّهُ غَفُورٌ لَهَا حِينَئِذٍ، تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْكُمْ، رَحِيمٌ بِكُمْ. وَالْآخَرُ مِنْهُمَا: {ثُمَّ أَفِيضُوا} مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، فَإِذَا أَفَضْتُمْ إِلَيْهِ مِنْهَا فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَهُ كَمَا هَدَاكُمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بُقُولِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ "، فَإِذَا فَرَغْتُمْ مِنْ حَجِّكُمْ فَذَبَحْتُمْ نََسَائِكَكُمْ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يُقَالُ مِنْهُ: "نَسَكَ الرَّجُلُ يَنْسُكُ نُسْكًا وَنُسُكًا وَنَسِيكَةً وَمَنْسَكًا"، إِذَا ذَبَحَ نُسُكَهُ، و"الْمَنْسَكُ" اسْمٌ مِثْلَ "الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ"، فَأَمَّا "النُّسُكُ" فِي الدِّينِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ مِنْهُ: "مَا كَانَ الرَّجُلُ نَاسِكًا، وَلَقَدْ نَسَكَ، وَنَسُكَ نُسْكًا وَنُسُكًا وَنَسَاكَةً"، وَذَلِكَ إِذَا تَقَرَّأَ. وَبِمَثَلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى "المَنَاسِكِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ مُجَاهِدٌ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}، قَالَ: إِهْرَاقَةُ الدِّمَاءِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ" ذِكْرِ الْقَوْمِ آبَاءَهُمُ"، الَّذِينَ أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَجْعَلُوا ذِكْرَهُمْ إِيَّاهُ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الْقَوْمُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ وَمَنَاسِكِهِمْ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَفَاخَرُونَ بِمَآثِرِ آبَائِهِمْ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ فِي الْإِسْلَامِ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُمْ بِالثَّنَاءِ وَالشُّكْرِ وَالتَّعْظِيمِ لِرَبِّهِمْ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَنْ يُلْزِمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْإِكْثَارِ مِنْ ذِكْرِهِ، نَظِيرَ مَا كَانُوا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنْ ذِكْرِ آبَائِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: كَانُوا يَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ فِي الْحَجِّ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَبِي يَضْرِبُ بِالسَّيْفِ! وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَبِي جَزَّ نَوَاصِي بَنِي فُلَانٍ!. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ. عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: كَانَ آبَاؤُنَا يَنْحَرُونَ الْجُزُرَ، وَيَفْعَلُونَ كَذَا! فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {اذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَذْكُرُونَ فِعَالَ آبَائِهِمْ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الْحَجِّ قَامُوا عِنْدَ الْبَيْتِ فَيَذْكُرُونَ آبَاءَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ: كَانَ أَبِي يُطْعِمُ الطَّعَامَ! وَكَانَ أَبِي يَفْعَلُ! فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ: عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَجَّاجٌ عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}، قَالَ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَذَكَرُوا آبَاءَهُمْ، وَذَكَرُوا أَيَّامَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِعَالَ آبَائِهِمْ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَالَ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ وَقَفُوا عِنْدَ الْجَمْرَةِ، وَذَكَرُوا أَيَّامَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَفِعَالَ آبَائِهِمْ. قَالَ: فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}، قَالَ: تَفَاخَرَتِ الْعَرَبُ بَيْنَهَا بِفِعْلِ آبَائِهَا يَوْمَ النَّحْرِ حِينَ فَرَغُوا فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ مَكَانَ ذَلِكَ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ بِمِنًى قَعَدُوا حِلَقًا فَذَكَرُوا صَنِيعَ آبَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وفِعَالَهُمْ بِهِ، يَخْطُبُ خَطِيبُهُمْ وَيُحَدِّثُ مُحَدِّثُهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ آبَاءَهُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} قَالَ: كَانُوا إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمُ اجْتَمَعُوا فَافْتَخَرُوا، وَذَكَرُوا آبَاءَهُمْ وَأَيَّامَهَا، فَأُمِرُوا أَنْ يَجْعَلُوا مَكَانَ ذَلِكَ ذِكْرَ اللَّهِ، يَذْكُرُونَهُ كَذِكْرِهِمْ آبَاءَهُمْ، أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ خَصِيفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ قَالَا كَانُوا يَذْكُرُونَ فِعْلَ آبَائِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وَقَفُوا بِعَرَفَةَ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ ذَلِكَ يَوْمَ النَّحْرِ، حِينَ يَنْحَرُونَ. قَالَ: قَالَ {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَوْمَ النَّحْرِ حِينَ يَفْرُغُونَ يَتَفَاخَرُونَ بِفَعَالِ آبَائِهَا، فَأُمِرُوا بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَكَانَ ذَلِكَ: وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِ الْأَبْنَاءِ وَالصِّبْيَانِ الْآبَاءَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قَالَ: هُوَ قَوْلُ الصَّبِيِّ: يَا أَبَاهُ!. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَاكِ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} يَعْنِي بِالذِّكْرِ، ذِكْرَ الْأَبْنَاءِ الْآبَاءَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ لِي عَطَاءٌ: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}: أَبَهْ! أُمَّهْ!. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: كَالصَّبِيِّ، يَلْهَجُ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. حُدِّثْتُ عَنْ عَمَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، يَقُولُ: كَذِكْرِ الْأَبْنَاءِ الْآبَاءَ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، يَقُولُ: كَمَا يَذْكُرُ الْأَبْنَاءُ الْآبَاءَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} يَعْنِي ذِكْرَ الْأَبْنَاءِ الْآبَاءَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ قِيلَ لَهُمْ: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ}، لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَضَوْا مَنَاسِكَهُمْ فَدَعَوْا رَبَّهُمْ، لَمْ يَذْكُرُوا غَيْرَ آبَائِهِمْ، فَأُمِرُوا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِنَظِيرِ ذِكْرِ آبَائِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قَضَتْ مَنَاسِكَهَا، وَأَقَامُوا بِمِنًى، يَقُومُ الرَّجُلُ فَيَسْأَلُ اللَّهَ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إِنَّ أَبِي كَانَ عَظِيمَ الْجَفْنَةِ عَظِيمَ الْقُبَّةِ، كَثِيرَ الْمَالِ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَ أَبِي!!"، لَيْسَ يَذْكُرُ اللَّهَ، إِنَّمَا يَذْكُرُ آبَاءَهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُعْطَى فِي الدُّنْيَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمَرَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ بِالطَّاعَةِ لَهُ فِي الْخُضُوعِ لِأَمْرِهِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ، بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ. وَذَلِكَ "الذِّكْرُ" جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّكْبِيرَ الَّذِي أَمَرَ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [سُورَةُ الْبَقَرَةِ: 203] الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ قَضَى نُسُكَهُ بَعْدَ قَضَائِهِ نُسُكَهُ، فَأَلْزَمَهُ حِينَئِذٍ مِنْ ذِكْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ لَازِمًا قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَثَّ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ مُحَافَظَةَ الْأَبْنَاءِ عَلَى ذِكْرِ الْآبَاءِ فِي الْإِكْثَارِ مِنْهُ بِالِاسْتِكَانَةِ لَهُ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ بِالرَّغْبَةِ مِنْهُمْ إِلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ كَتَضَرُّعِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَالصَّبِيِّ لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ، أَوْ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ مَا كَانَ بِهِمْ وَبِآبَائِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْهُ، وَهُوَ وَلِيُّهُ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: "الذِّكْرُ" الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْحَاجَّ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِبِقَوْلِهِ: "فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِككُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا": "جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّكْبِيرَ الَّذِي وَصَفْنَا"، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا ذِكْرَ لِلَّهِ أَمَرَ الْعِبَادَ بِهِ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ مِنْ فَرْضِهِ قَبْلَ قَضَائِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ، سِوَى التَّكْبِيرِ الَّذِي خَصَّ اللَّهُ بِهِ أَيَّامَ مِنًى. فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى خَلْقِهِ بَعْدَ قَضَائِهِمْ مَنَاسِكَهُمْ مِنْ ذِكْرِهِ مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا شَيْءَ مِنْ ذِكْرِهِ خُصَّ بِهِ ذَلِكَ الْوَقْتُ سِوَى التَّكْبِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَانَتْ بَيِّنَةً صِحَّةُ مَا قُلْنَا مِنْ تَأْوِيلِ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْنَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا، وَارْغَبُوا إِلَيْهِ فِيمَا لَدَيْهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِابْتِهَالٍ وَتَمَسْكُنٍ، وَاجْعَلُوا أَعْمَالَكُمْ لِوَجْهِهِ خَالِصًا وَلِطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَقُولُوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وَلَا تَكُونُوا كَمَنِ اشْتَرَى الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ، فَكَانَتْ أَعْمَالُهُمْ لِلدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، فَلَا يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ إِلَّا مَتَاعَهَا، وَلَا حَظَّ لَهُمْ فِي ثَوَابِ اللَّهِ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي جَنَّاتِهِ وَكَرِيمِ مَا أَعَدَّ لِأَوْلِيَائِهِ، كَمَا قَالَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا}، هَبْ لَنَا غَنَمًا! هَبْ لَنَا إِبِلًا! {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: "هَبْ لَنَا إِبِلًا!"، ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ فِي قَوْلِهِ: "فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"، قَالَ: كَانُوا يَعْنِي أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ يَقِفُونَ- يَعْنِي بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ- فَيَقُولُونَ: "اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا إِبِلًا! اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا غَنَمًا!"، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: قُلْتُ لِيَحْيَى بْنِ آدَمَ: عَمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ. حَدَّثَنَا تَمِيمُ بْنُ الْمُنْتَصِرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَنَسٍ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَيَدْعُونَ فَيَقُولُونَ: "اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْمَطَرَ، وَأَعْطِنَا عَلَى عَدُوِّنَا الظَّفَرَ، وَرُدَّنَا صَالِحِينَ إِلَى صَالِحِينَ!. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا} نَصْرًا وَرِزْقًا، وَلَا يَسْأَلُونَ لِآخِرَتِهِمْ شَيْئًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، فَهَذَا عَبْدٌ نَوَى الدُّنْيَا، لَهَا عَمَلَ، وَلَهَا نَصِبَ. حَدَّثَنَا مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا قَضَتْ مَنَاسِكَهَا وَأَقَامَتْ بِمِنًى لَا يَذْكُرُ اللَّهَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ أَبَاهُ، وَيَسْأَلُ أَنْ يُعطَى فِي الدُّنْيَا. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي قَوْلِهِ: "فَإِذَا {قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، قَالَ كَانُوا أَصْنَافًا ثَلَاثَةً فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ يَوْمئِذٍ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَهْلُ الْكُفْرِ، وَأَهْلُ النِّفَاقِ. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} إِنَّمَا حَجُّوا لِلدُّنْيَا وَالْمَسْأَلَةِ، لَا يُرِيدُونَ الْآخِرَةَ، وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا و مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، الْآيَةَ قَالَ: وَالصِّنْفُ الثَّالِثُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الْآيَةَ. وَأَمَّا مَعْنَى "الخَلَاقِ" فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي تَأْوِيلِهِ وَالصَّحِيحَ لَدَيْنَا مِنْ مَعْنَاهُ بِالشَّوَاهِدِ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَأَنَّهُ النَّصِيبُ، بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى "الحَسَنَةِ" الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ. يَعْنِي بِذَلِكَ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: رَبَّنَا أَعْطِنَا عَافِيَةً فِي الدُّنْيَا وَعَافِيَةً فِي الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَمِّرٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، قَالَ: فِي الدُّنْيَا عَافِيَةً، وَفِي الْآخِرَةِ عَافِيَةً. «قَالَ قَتَادَةُ: وَقَالَ رَجُلٌ: "اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا"، فَمَرِضَ مَرَضًا حَتَّى أَضْنَى عَلَى فِرَاشِهِ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَأْنُهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ دَعَا بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهُ لَا طَاقَةَ لِأَحَدٍ بِعُقُوبَةِ اللَّهِ، وَلَكِنْ قُلْ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. فَقَالَهَا، فَمَا لَبِثَ إِلَّا أَيَّامًا أَوْ: يَسِيرًا حَتَّى بَرِئ). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ الْحَكَمِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: (عَادَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا قَدْ صَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ الْمَنْتُوفِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللَّهَ بِشَيْءٍ؟- أَوْ تَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا؟ قَالَ: قُلْتُ: "اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَاقِبْنِي بِهِ فِي الدُّنْيَا!". قَالَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ! هَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أَحَدٌ أَوْ يُطِيقُهُ؟ فَهَلَّا قُلْتَ: "اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؟). وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِـ "الْحَسَنَةِ"- فِي هَذَا الْمَوْضِعِ- فِي الدُّنْيَا، الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ، وَفِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ: "وَمِنْهُمْ {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، قَالَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، قَالَ: الْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةُ فِي الْآخِرَةِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَاقِدٍ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، قَالَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: الْفَهْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَالْعِلْمُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ [فِي] هَذِهِ الْآيَةِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، قَالَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا: الْعِلْمُ وَالرِّزْقُ الطَّيِّبُ، الْآخِرَةِ حَسَنَةً" الْجَنَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: "الْحَسَنَةُ" فِي الدُّنْيَا: الْمَالُ، وَفِي الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ. حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ، عَنِ السُّدِّيِّ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ; أَمَّا حَسَنَةُ الدُّنْيَا فَالْمَالُ، وَأَمَّا حَسَنَةُ الْآخِرَةِ فَالْجَنَّةُ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، مِمَّنْ حَجَّ بَيْتَهُ، يَسْأَلُونَ رَبَّهُمُ الْحَسَنَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْحَسَنَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ النَّارِ.وَقَدْ تَجْمَعُ "الْحَسَنَةُ" مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْعَافِيَةَ فِي الْجِسْمِ وَالْمَعَاشِ وَالرِّزْقِوَغَيْرَ ذَلِكَ، وَالْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ. وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَلَا شَكَّ أَنَّهَا الجَّنةُ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَنَلْهَا يَوْمئِذٍ فَقَدْ حُرِمَ جَمِيعَ الْحَسَنَاتِ، وَفَارَقَ جَمِيعَ مَعَانِي الْعَافِيَةِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخَصِّصْ بِقَوْلِهِ- مُخْبِرًا عَنْ قَائِلٍ ذَلِكَ- مِنْ مَعَانِي "الحَسَنَةِ" شَيْئًا، وَلَا نَصَبَ عَلَى خُصُوصِهِ دَلَالَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضٌ دُونَ بَعْضٍ، فَالْوَاجِبُ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْ مَعَانِي ذَلِكَ شَيْءٌ، وَأَنْ يُحْكَمَ لَهُ بِعُمُومِهِ عَلَى مَا عَمَّهُ اللَّهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ: اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ النَّارِ. وَيُقَالُ مِنْهُ: "وَقَيْتُهُ كَذَا أَقِيهِ وِقَايَةً وَوَقَايَةً وَوِقَاءً"، مَمْدُودًا، وَرُبَّمَا قَالُوا: "وَقَاكَ اللَّهُ وَقْيًا"، إِذَا دَفَعْتَ عَنْهُ أَذًى أَوْ مَكْرُوهًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: "أُولَئِكَ" الَّذِينَ يَقُولُونَ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، رَغْبَةً مِنْهُمْ إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيمَا عِنْدَهُ، وَعِلْمًا مِنْهُمْ بِأَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. فَأَعْلَمَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ لَهُمْ نَصِيبًا وَحَظًّا مِنْ حَجِّهِمْ وَمَنَاسِكِهِمْ، وَثَوَابًا جَزِيلًا عَلَى عَمَلِهِمُ الَّذِي كَسَبُوهُ، وَبَاشَرُوا مُعَانَاتَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، خَاصًّا ذَلِكَ لَهُمْ دُونَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ، الَّذِينَ عَانَوْا مَا عَانَوْا مَنْ نَصَبِ أَعْمَالِهِمْ وَتَعَبِهَا، وَتَكَلَّفُوا مَا تَكَلَّفُوا مِنْ أَسْفَارِهِمْ، بِغَيْرِ رَغْبَةٍ مِنْهُمْ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِمْ مِنَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ، وَلَكِنْ رَجَاءَ خَسِيسٍ مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا، وَابْتِغَاءَ عَاجِلِ حُطَامِهَا. كَمَا:- حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زَرِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "فَمِنَ {النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، قَالَ: فَهَذَا عَبْدٌ نَوَى الدُّنْيَا، لَهَا عَمِلَ وَلَهَا نَصِبَ، " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا}، أَيْ حَظٌّ مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَحَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍفِي: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، إِنَّمَا حَجُّوا لِلدُّنْيَا وَالْمَسْأَلَةِ، لَا يُرِيدُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، قَالَ: فَهَؤُلَاءِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ" أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"، لِهَؤُلَاءِ الْأَجْرُ بِمَا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ"، فَإِنَّهُ يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنَّهُ مُحِيطٌ بِعَمَلِ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا اللَّذَيْنِ مِنْ مَسْأَلَةِ أَحَدِهِمَا: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا"، وَمِنْ مَسْأَلَةِ الْآخَرِ: "رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"، فَمُحِصَ لَهُ بِأَسْرَعِ الْحِسَابِ، ثُمَّ إِنَّهُ مُجَازٍ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَمَلِهِ. وَإِنَّمَاوَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَفْسَهُ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ يُحْصِي مَا يُحْصِي مِنْ أَعْمَالِ عِبَادِهِ بِغَيْرِ عَقْدِ أَصَابِعَ، وَلَا فِكْرٍ وَلَا رَوِيَّةٍ، فِعْلَ الْعَجَزَةِ الضَّعَفَةِ مِنَ الْخَلْقِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِيهِمَا، ثُمَّ هُوَ مُجَازٍ عِبَادَهُ عَلَى كُلِّ ذَلِكَ. فَلِذَلِكَ امْتَدَحَ نَفْسَهُ جَلَّ ذِكْرُهُ بِسُرْعَةِ الْحِسَابِ، وَأَخْبَرَ خَلْقَهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ بِمِثْلٍ، فَيَحْتَاجُ فِي حِسَابِهِ إِلَى عَقْدِ كَفٍّ أَوْ وَعْيِ صَدْرٍ.
|